الدولة الدينية أم الدولة الطائفية؟
مقدمة لابد منها عن أهمية المصطلحات المستخدمة في الحوار - خاصة السياسي - حتى يكون للحوار فائدة أكثر من تزجية الوقت وتفريغ شحنات الغضب أو استعراض القدرات البلاغية والخطابية للمتحاورين ، سأكتفي بواقعة طريفة حدثت لي في أحد المراكز البحثية السياسية الكبرى عندما كان يفترض بأحد علماء السياسة المشهورين اعطاء محاضرة لمجموعة من الشباب - كنت أحدهم - عن مبادئ علم السياسة ، وأثناء حديثه عن "الأيديولوجيات ودورها" فإذا بأحد الشباب يسأله "يعني إيه أيديولوجيا يا دكتور؟" فرد العالم السياسي بأن الأيديولوجيا هي منظومة فكرية متكاملة ، فتسائل الشاب - وأظنه ينتمي للتيار الإسلامي -
"وهل الأخوان المسلمين أيديولوجيا؟"
"وهل الأخوان المسلمين أيديولوجيا؟"
هنا ضحك العالم السياسي وقال بسخرية "إن شاء الله"
ضايقني الموقف وشعرت بالإهانة التي لحقت بالشاب لا لشئ سوي أنه صادف مصطلحا جديدا لم يقابله من قبل ، لكن في نفس الوقت شعرت بمدى أهمية ما كنا شرعنا فيه بالفعل أنا وزميلتي اسراء نوح - التي شاركتني حضور ذلك اللقاء - في تخصيص أول محاضرة في كورس مدرسة السياسة لل"مصطلحات السياسية" المستخدمة في حواراتنا اليومية والتي قامت هي بإعداده بنفسها ، في محاولة منا لمنع ذلك الموقف من التكرر مرة أخرى وإيجاد مستوى مبدئي من الاتفاق على المصطلحات لدى الحاضرين في مدرسة السياسة
أعود للموضوع الأصلي وأقول أن استخدام مصطلح ملتبس مثل مصطلح "الدولة الدينية" كفيل بخلق حالة من إنقطاع التواصل التام بين المتحدث والمتلقي غير الناشط سياسيا ، فعندما يرسخ في ذهن السواد الأعظم من المتلقين بإختلاف درجاتهم العلمية وأمزجتهم أن الدين هو مصدر الأخلاق والعزة والرحمة والعدل فلابد وأنه سيتعجب عندما يقول أحدهم أنه لا يجب نسب الدولة للدين وأنه يرفض أن يعيش تحت حكم ديني في "دولة الدينية" ! فهل نرفض دولة تقوم على الدين الذي هو منبع الأخلاق والعدل والعزة؟!
يستخدم دعاة التيار الإسلامي ذلك التناقض بأقصى قدر من الذكاء عندما يوجهون خطابهم لدعاة التيار المدني بقولهم "أنه ليس في الإسلام دولة دينية" وأن "الدولة الإسلامية ليست دولة دينية" بينما يوجهون خطابهم للناس بأن أولئك الذين يرفضون دولة الإسلام هم الكفار والمنافقين وأعداء الدين
هنا نجد إلتباسا غير مقصود في معظمه عند أغلب دعاة الدولة الإسلامية حيث يقومون بتعريف الدولة الدينية بإنها "الدولة التي يتولى فيها الحكم رجال الدين بتفويض إلهي" وبينما يقولون ببعض الصدق أنه ليس هناك ثمة "رجال دين" في الإسلام فلذلك لا معنى لرفض الدولة الدينية الإسلامية فهي ليست مثل الدولة الدينية المسيحية التي حكمت أوروبا وخربتها في العصور الوسطى
يظهر جليا ذكاء المتحدث الإسلامي حيث يضرب عصفورين بحجر واحد ،، فهو من ناحية يلمز بقوة في الدين المنافس "المسيحية" ويظهر أن رجال ذلك الدين قد جلبوا الخراب والقهر على أوروبا ومن ناحية أخرى - وهو الأهم - يدفع بأن المشكلة التي تحلها مبادئ العلمانية هي مشكلة ليست موجودة أصلا في دولة الإسلام حتى نحتاج لها حل
الحقيقة أنه وللوهلة الأولى قد نوافق على أن الإسلام لم يعرف "رجال الدين" الرسميون المنتمين لكنيسة حاكمة أو لجامع حاكم ، بل يشهد تاريخ الإسلام أن الجوامع كانت جامعة بالفعل لفقهاء مذاهب متعددة ولم يكن هناك إقتتال كبير بين المذاهب الإسلامية إلا في بضع حالات مثل الإقتتال بين الشيعة والسنة
لكن من حقنا أن نتسائل عن ماهية أشخاص مثل "أبو اسحق الحويني" و"محمد حسان" وشيخ الأزهر - فضلا عن رجال الدين الشيعة - وغيرهم إن لم يكونوا رجال دين بالمعنى الفعلي للكلمة؟ فهم أشخاص مصدر رزقهم الوحيد هو الدين وكلما ازداد اقبال الناس على الدين كلما ازدادوا ثراء ونفوذا وسلطة في نموذج مشابه لما كان عليه الحال مع رجال الدين الكنسيين في العصور الوسطى، بل أن بعضهم - وإن كان لا يحكم الدولة - لكنه ينتمي لتنظيم سياسي ديني يقوم على الطاعة وتراتب القيادات لا يختلف كثيرا عن النظام الكنسي ولهم أب يرشدهم ويقبلون أصابعه مثلما كان يفعل رجال الكنيسة مع البابا
زد على ذلك وجود مرشح رئاسي - هو أيضا شيخ يكسب رزقه من الوعظ على أحد القنوات الفضائية - يقول أنه لن يفرض على النساء المصريات زيا بعينه "بل أن الله الذي فرض ذلك الزى" على حد قوله ، في تجلي صريح لمعنى "الحكم الإلهي" الذي يحتج الإسلاميون بأنه لا يوجد في الإسلام ولذلك فدولة الإسلام ليست دولة دينية
ولكن دعني أسأل سؤالا قبل ذلك ، ما العيب في "الدولة الدينية" حتى يهاجمها المتحررون ويتبرأ منها المحافظون؟ ما العيب في دولة تنتسب لقيم الأخلاق والعدل والكرامة التي هي أسس أى دين؟
أرد هنا بأن العيب ليس في انتساب الدولة للدين وللقيم التي تنبع منه - فعمليا لكل مجتمع قيمه وخصائصه التي تنبع منها قيم دولته - ولكن الكارثة تكمن في أن تنحاز الدولة لصالح رؤية أحد الطوائف الدينية في تطبيق تلك القيم ضد رؤى بقية الطوائف
الكارثة تظهر جلية عندما لا يتوقف إيمان طائفة ما عند حدود أن ما تعتنقه من عقيدة هو الصواب ولكن عندما يتعدى إيمانها حدود الإيمان الذاتي ويطالب ذلك الإيمان من أصحاب تلك الطائفة تسخير وتذليل بقية الطوائف
فمثلا بينما تعتقد أحد الطوائف الدينية في المجتمع - لا أناقش هنا حجم تلك الطائفة - أن تغطية شعر المرأة هو الحد الأدنى المقبول للأخلاق - وحق الإعتقاد حق أصيل لتلك الطائفة - وبينما لا تشاركها بقية الطوائف نفس الإعتقاد ، نجد الدولة الطائفية لا تقف على الحياد من كل الطوائف ولا تعطي حق الإعتقاد والإجتهاد بالتساوي للجميع ، بل تنحاز لرؤية طائفة بعينها وتسعى لفرض تلك الرؤية على المجتمع ككل ، ليس من منطلق مشاركة الجميع في اتخاذ القرار بل من منطلق صحة ما تعتقده تلك الطائفة دينيا بدون الحاجة لتبريره بمبررات دنيوية مقنعة للجميع
فنرى سعيا حثيثا لصياغة إيمان تلك الطائفة في قانون يفرض ذلك الإيمان بنفس شكله وتفاصيله على بقية الطوائف
هنا لا تكمن مشكلة الدولة الدينية في سعيها للعدالة و الكرامة والحرية وإنما في إعتمادها على مفهوم طائفي - تختص به طائفة دون أخرى - للعدالة والكرامة والحرية فتصبح دولة طائفية تقسم الحقوق على المواطنين ليس بصفتهم مواطنين وإنما تبعا لطوائفهم الدينية والعقائدية ،، فيصبح من حق تلك الطائفة وحدها تولي المناصب العامة ومن حق الطائفة الأخرى فقط دفع ضرائب أقل
يصبح من حق تلك الطائفة -المسيحيين الأرثوذكس على سبيل المثال - بناء دور عبادتها - لإن دين الطائفة الأكبر يعطيها ذلك الحق - بينما يحجب ذلك الحق عن طائفة أخرى - البهائيين مثلا- لإنها في نظر دين الطائفة الأكبر لا تمتلك ذلك الحق
يصبح من حق تلك الطائفة - السنية على سبيل المثال فرض آرائها وارادتها وعقيدتها على طائفة أخرى تختلف معها في المنهج - الشيعة مثلا والعكس صحيح بنفس القدر - رغم إشتراكهم في نفس الدين
هنا تصبح الطائفية وليس الدين هي الخطر الحقيقي الذي يتهدد الدولة ويهدد الأمن والعدالة والحرية فيها حيث يحول الدولة من أداة لحماية حقوق الأفراد وتنظيم شئون حياتهم لأداة لكي تفرض الطائفة الأكبر عقيدتها وسلطانها على ماعداها من طوائف مما يدفع المجتمع في دوامة من التمييز والعنصرية وماينتج عنهم من كراهية وتشاحن بين شركاء الوطن وتنافس ليس على مقدار ما يقدمه كل منا لوطنه بل تنافس على قدرة كل طائفة على إخراس صوت ماعداها من طوائف والتحكم فيما تحويه ضمائرها
يقول أحدهم أيضا أن بلادنا التي هي أبعد مايكون عن أن تكون دول دينية لم تخل من طائفية وأقول له إن هذا حق لإن الطائفية ليست محصورة في ذلك الشكل القديم للحكم الكنسي والذي يقول دعاة الطائفية في زماننا أنه لا يوجد عندنا الآن ، بل أن الطائفية درجات ،أشدها ما فعلته الكنائس الأوروبية في السابق وليس أقلها مايفعله دعاة الطائفية في بلادنا من التمييز بين طوائف المجتمع وتقطيعها شيعا متناحرة
لكل ذلك أقول أحذروا الدولة الطائفية التي تتجمل وتختبئ خلف إسم "الدولة الدينية" المخادع
أحذروا الطائفية التي تبدو جلية في خلفية كل جملة تدافع عن الحكم الطائفي بوصفه صحيح الدين
أحذروا الطائفية، ولا يقولن أحدكم "دولة دينية" بل أسموها اسمها الحقيقي "دولة الطائفية".
No comments:
Post a Comment