Friday, February 26, 2016

تأملات عقلانية في خطاب السيسي الأخير

تابعت بشغف خطاب الرئيس السيسي في حفل تدشين رؤيتهم لمصر 2030 ولم يعكر صفو الخطاب سوي التعليقات الساخرة والغاضبة العديدة من المارة وأصحاب المحلات حيث شاهدته - عن عمد - في أحد محلات البقالة لأتابع ردود الأفعال عليه , ثم شاهدت الاعادة مرات متكررة على قنوات مصرية مختلفة ووجدت أنه ربما يكون من المفيد استعادة عادتي القديمة في تسجيل الملاحظات على الخطابات السياسية , خاصة مع الأنباء التي تتواتر عن قضايا جديدة يتم اعدادها لمن شاركوا في ما عرف بإقتحام مقرات أمن الدولة منذ خمس سنوات وزيادة احتمالية اعتقالي وأن يكون ذلك الخطاب بالتالي الخطاب الأخير الذي أسمعه للسيسي وهاهنا بعض النقاط التي أوقفتني

أولًا : لا يتفق تصريح رئيس الجمهورية بأن هناك معلومات تتعلق بالأمن القومي اعلانها خطر على مصالح مصر مع قيامه بالاعلان عنها في نفس الخطاب للتفاخر ولإثبات أنه يعرف أكثر مما يعرف منتقدوه! فلم يشكك أحد في أن ما يعرفه السيسي وأجهزته السيادية من معلومات أكثر بكثير مما يعرف أى مواطن عادي نظرًا لطبيعة النظام المعادية للشفافية وعدم وجود وسيلة اعلام رسمية قادرة على التعبير عن رؤيته واتجاهاته والدفاع عنها وكشف تفاصيل عمله وقراراته أمام الشعب
 ويعني هذا قيامه بتعريض الأمن القومي لمصر للخطر عمدًا للحفاظ على صورته أمام الناس بشكل يبدو مبتذل للغاية ودال بشكل واضح على اهتزاز شخصيته أمام مظاهر الغضب الشعبي التي تحاصره من مختلف الاتجاهات وبين كل الفئات

ثانيًا : لا يتفق تصريح رئيس الجمهورية بأنه على استعداد لكى "يبيع نفسه من أجل مصر" مع مبدأ أساسي قامت عليه النظرية النازية (الناصرية) الحاكمة لمصر منذ الخمسينات وهى نظرية التفوق الوطني والكرامة والفخر الأممي وارتباط القومية والزعامة بالقوة والصلابة والتشدد في المواقف بل والذكورية أحيانًا , فالحماسة الوطنية كما يقول جورج واشنطن قد تكون دافعة للناس للدفاع عن أوطانهم لفترة ما لكن لا يمكن ضمان استمرارهم في دفاعهم عنها إلا بوجود مصلحة مستمرة , ونحن إن كنا كشعب ودولة نعاني أزمة وجود وفناء فلا يمكن أن يكون الطريق لذلك هو عرض أنفسنا للبيع! ولا يمكن أن يكون ذلك من مفردات خطاب الزعيم القائد الذي تتمحور حوله السلطة المركزية لإعادة البناء وفقًا للتصور النازي الذي فشل في ألمانيا والعراق ونجح في البقاء حتى الآن في عدة دول على رأسها مصر وسوريا وغيرهم ويعتمد في الأساس على خطاب القوة والحماسة والتشجيع والانجاز وصحيح أنه ليس بالانجاز وحده يستطيع المجتمع الاستمرار تحت مظلة حكومة بعينها لا ترضي طموحاته, بل يحتاج المجتمع في حالة اعادة بناء نفسه ودخول الحروب مع العالم لإعادة تكييف وضعه إلى أن تكون ثقته في القيادة مطلقة (كما هو الحال في الدولة النموذج كوريا الشمالية) وإلا كان انقلابه عليها سريعًا ومنجزًا , إلا أنه مع غياب الانجاز أيضًا لا يمكن أن تكون هنالك مصلحة للشعب المصري من بيع أحد أفراده ولو كان رئيس الجمهورية. قد لا تتغير الأنظمة بسهولة لكن المسئولين يمكن استبدالهم دائمًا بمن لهم طموح ومصالح في بقاء هرم السلطة على حاله رغم تغيير الرموز الكبرى , ويعلم الجميع أن الجيش سوف يظل الحاكم الفعلي للبلاد حتى بعد تبديل فريق حكم السيسي بفريق آخر ولذلك فالجملة المبتذلة المستخدمة هنا تكاد تكون دعوة مفتوحة لأى مغامر من داخل النظام بمحاولة القيام بإنقلاب من أجل الإطاحة بالقائد الرخو واستبداله بقيادة أكثر صرامة وكرامة ولا تجعل من نفسها أضحوكة أمام العالم

ثالثًا: صبح على مصر بجنيه ! هنا دارت رأسي , فلم أفهم كيف يمكن لتبرعات المصريين لمصر أن تنقذ مصر من الافلاس؟ كيف يمكن تصور أن جنيه أدفعه يوميًا لمصر يمكن أن يصلح مالم تصلحه آلاف الجنيهات التي أدفعها لمصر ولا أحصل منها على مقابل إلا الظلم والفساد والفشل ؟ وبالضبط كما قالت أحد التعليقات "كل واحد الصبح يملى ازازة مية من الحنفية ويروح يدلقها في النيل عشان ننقذ مصر من الجفاف" نفس الخطأ المنطقي الفادح والذي يدل على انعدام الفهم الأولي لمبادئ الإقتصاد ليس من السيسي فقط بل وممن يسمعون خطابه ثم يصمتون , فالصمت هنا جريمة خيانة عظمى لا يمكن الافلات من عقوبتها التاريخية وإن كانت عادة مالا يحاكم أحد عليها بوصفها جريمة جماعية يرتكبها الشعب بأكمله. ورغم أن ذلك الخطاب متكرر منذ بداية عهد حكم السيسي بأشكال مختلفة إلا أن "التصبيح بجنيه" كانت عبارة فائقة التلخيص لعقلية غير قادرة على استيعاب معنى الاقتصاد والسوق والضرائب والتجارة الذين يرتبط بهم اقتصاد الدول وتخلط بينهم وبين ادارة المنظومات المغلقة التي تمول وتدعم بميزانيات خارجية لا تشارك في انشاءها.

رابعًأ: ماتسمعوش من حد غيري!؟ في أشد كوابيس جورج أورويل لا أظن أنه تخيل تلك الحالة من الانفصال على الواقع , فلربما كان هذا الخطاب ناجحًا حتى سنوات قليلة مضت حيث لم تكن المعرفة والاتصال حق يمارس بالفعل ويتحقق على أرض الواقع وفي فضاء الواقع الافتراضي لكن ترديده الآن يبدو اعلان عن عجز النخبة التي يمثلها ويتزعمها السيسي عن تصور عالم لا تكون فيه هى المهيمنة والمسيطرة على عقول البشر واتصالهم بعضهم البعض , بدا لي السيسي في تلك العبارة كممثل مبتدئ يلقي مونولوجًا في اختبار لجزء ثاني من مسرحية الزعيم , ولم يكن مقنعًا بأى حال. فحتى أشد مؤيديه حماسة لا يمكنه أن يلتزم بذلك الطلب وان حاول , فالعالم لم يعد عالم الصوت الواحد مهما تخندق المتخندقون وامتنعوا عن المشاركة في الحوار الجاري طوال الوقت بين جميع الأطراف المعنية بالمستقبل والوطن.

خامسًا: "احنا عندنا 7 مليون موظف وممكن نشتغل بمليون بس" , عبارة تتناقض مع الواجبات المفروضة على الزعيم القائد حيث يكون من صلاحياته بل من واجبه اتخاذ الإجراءات الضرورية لتغيير شكل الدولة التي لجأ إليها مواطنوها لينقذهم دون محاباة لفئة على سواها , وفي دولة تعدادها 90 مليون يبدو ال 7 مليون موظف الذين يشتري الرئيس ودهم ويساومهم على حريتهم وكرامتهم تمامًا كأهل السيسي وعشيرته الذين وان كانوا أغنى وأقوى من الأخوان إلا أنهم ليسوا هم كل الشعب المصري ولا يمكن أن يرضى صاحب عقل أن تعمل الحكومة بسبع أضعاف احتياجها من الموظفين دون خطة واضحة للهيكلة والاستغناء عن كل من هو غير مؤهل لمنصبه , كما يتناقض هذا التصريح مع تهديده المبطن للبرلمان من معارضة الحكومة التي أختارها هو , حيث لا يتصور عاقل أن من بين 7 مليون موظف و3 مليون مغترب منهم آلاف العلماء والخبراء ألا يوجد أفضل من هذه الحكومة ولا يوجد من هو أقل فساد من الزند , ولا يتصور لرئيس قدم نفسه على أنه الزعيم القائد القادر على اتخاذ الاجراءات الحاسمة ألا يستطيع وضع خطة لاعادة هيكلة الحكومة ومؤسسات الرقابة عليها لتعمل بشكل يرضي المصريون ويتجاوز فكرة "أنا شغال معاهم وعارف هما بيعملوا ايه" الساذجة التي وجدت ردودًا غاضبة من معظم من سمعوها ورأوا بأعينهم عدم اتساقها مع الواقع والفشل المستمر للحكومة ومسئوليها.


سادسًا : "كل مسئول يخلي باله من تفاصيل شغله عشان نمنع الفساد" الجملة دي رغم غرابتها وطرافتها في الواقع المصري , لكن لها وجاهة في النظرية الهرمية للسلطة , حيث يكفي أن يكون كل أمير صاحب ضمير يقظ حتى يحسن معاملة الرعية , لكن النظام الهرمي في السلطة وإن كان نافعًا جدًا في حالة الحروب والمواجهات العسكرية وشديد الكفاءة في حكم الامارات والولايات الصغيرة لكنه لا يمكن أن يواجه مصادر الفساد ويبطلها في حالة فساد سرطانية مثل المنتشرة في الجسد المصري , الفساد في مصر متغلغل وشرس وشره بشكل لا يمكن لأى صاحب ضمير وطني أن يقبل من رئيس جمهورية أيًا كانت شخصيته وانتماءاته وخلفياته أن يكون كل جهوده في مجابهته هى نصيحة "أخ أكبر" لأخوته المسئولين الكبار بأن "يخلوا بالهم من تفاصيل شغلهم" فليس هكذا تدار الدول ولا يمكن أن يكون هذا هو نهاية طريق الحرية بالنسبة للشعب المصري, فالتحرر من الفساد لا يقل أهمية من التحرر من الاستعمار بل ويزيد عليه صعوبة بكثير لتغلغله في كل بيت ومؤسسة ولن يمكنك أيًا ماكانت انتماءاتك وتوجهاتك الفكرية أن تقبل ببناء مبنى سكني على أساس مخوخ اذا كنت ستكون أحد سكان ذلك البناء أنت وأبناؤك ولا يمكن لعاقل أن يضع تصور لمصر سنة 2030 دون أن يكون من أهم محاوره محور القضاء على الفساد واعادة انشاء دولة القانون والشفافية.

سابعًا: تعجبت كثيرًا من تصريحه عن استقدام خبراء يابانيين لإصلاح التعليم وشرحه لمهمتهم والتسهيلات التي سيقدمها لهم بإنشاء 100 مدرسة ليعملوا من خلالها! كأنه لا يعترف بأن هناك أزمة في المنظومة التعليمية نفسها وليس في عدد المدارس ولن يحل أزمة فشل تعليم ملايين الطلاب تطبيق تجربة مدرسة نموذجية على الطريقة اليابانية المزعومة , ما نحتاجه حقيقة هو فتح الباب للخبراء في كل المجالات من كل الدول المتقدمة للعمل في تثوير ودعم الخبرات المحلية وليس في ذلك ما يعيب أو ينتقص من سيادة الدولة المصرية بل سيثريها ويساهم في إعادتها لمكانتها المطلوبة للاستقرار العالمي ولكن هذا سيعني قطعًا احالة الآلاف من الخبراء العاطلين الذين يحصلون على مرتبات حكومية للمعاش وابدالهم بغيرهم وهو ما لن تسمح به عشيرة السيسي الحاكمة لما في ذلك من انتقاص لسطوتها ونفوذها على الأراضي المصرية.


بعد ذلك سمعت إعادة الخطاب أكثر من مرة لأجد أى تعليق على حادثة ريجيني الباحث الإيطالي فصدمني أنه لم يعلق وأدهشني قيام السيسي بالإعتراف أخيرًا بكل ما يعرفه العالم منذ شهور من إسقاط الإرهابيين للطائرة الروسية وتعليقه الساخر على فضيحة اهدار المال العام على سجادته الحمراء بما يشبه تعليق مبارك في أواخر أيامه على كارثة العبارة "عبارة من اللي بيغرقوا دول ههههه" وكأنه يستهزئ بأولئك الذين يثيرون مثل تلك المواضيع الصغيرة التافهة التي تستأهل سخريته وليس رده واعتذاره أو توضيحه, كما كان تعليقه ب"أنتم مين" مشابه لتعليق القذافي من فوق التوكتوك قبل سقوطه ب"من أنتم" , فأجتمعت أقوال الفلاسفة في خطبة الطبيب القائد الزعيم الرئيس يطول عمره يزهزه عصره ينصره على مين يواليه.


No comments: