رغم التحذيرات الخفية نظرت عبر تلك العيون الجاحظة التي أهداني إياها، أرتجف قلبي خوفًا مما أتوقع أن أراه وبرز العرق البارد من كل مكان ببدني حتى صارت الرجفة إنخلاعًا، أعلم أن ما سأخبرك به يبدو هلاوس مجنون وأن شهور مضت منذ وصفت نفسي بثقة بأنني سليم العقل، لكن لم يكن جموح خيالي يومًا بهذه القوة والتجسد، حتى الآن عندما أكتب لك تلك الرسالة تبدو لي آلامي أكثر قوة من أى يوم مضى.
أنهم هنا، في كل مكان، يجوبون الطرقات ببشاعة شديدة، يتكاثرون بأضعاف مايتكاثر به البشر، يتنوعون في أشكالهم ومقاصدهم وأضرارهم، يضحكون ويلعبون في كل مكان، على الأرصفة وداخل البيوت وعلى أعتاب المساجد والكنائس، يتفاخرون بما يصنعون بنا ويتراهنون على مايمكنهم تحقيقه، من فترة لفترة يصرخون ويهربون من وجه انسان مؤمن يرفض السقوط في براثنهم، لكن هذا مالا يلبث أن يتبدل، فمجالس كبرائهم في كل مكان، وخطط خبرائهم لا تلبث أن تنفذ بدقة، فيُحاصر المقاومين حتى يستسلموا أو يقتلوا أو يخرجوا من تلك الأرض بلا رجعة.
لم أجرؤ على تذكر ما رأيت تحديدًا، فقط ذكرى باهتة لأطياف سوداء متلحفة بدم لزج أميل للسواد منه للحمرة، شهقات تبعث على الصداع والألم تخترق رأسي عند التفكر في ذلك، تلك القمامة في الشوارع عنوان سطوتهم، يتفاخرون بها ويرتعون فيها، كل ما آذى الإنسان كان لديهم محمودًا، فصاروا يتنقلون بين البيوت كأطفال يتيهون في جنة الألعاب، ولكن هؤلاء ليسوا أطفال ونحن أيضًا لم نعد أطفالًا، كنا يومًا ما أطفالًا حتى فسدت معيشتنا وصرنا مطبوعين باللعنة.
سالت الدماء على الأرض، مجرد حادثة طريق لسيارة يقودها سائق غرقت رأسه في المخدر فقتل نفسه وأزهق أرواح من رضوا بالركوب معه وأرواح آخرين لم يعلموا عنه شيئًا، صراخ وعويل على ذلك الجانب وفرح واحتفال على الجانب الآخر، تجمعوا فوق الجثث المكدسة والأجساد المحترقة والمبتورة ليحتفلوا بدفعة جديدة من الخريجين تنتقل من تلك الحياة القصيرة لمملكة أبيهم في أعماق الجحيم، يضحكون أكثر وأكثر كلما ازداد صراخ الألم من الناجين يبكون رفاقهم الموتى، يعلمون بأن ذلك لاشئ وماتلبث عقارب الساعة حتى تبتلع تلك الذكرى المؤلمة وينسى من بقوا أحياء أمواتهم وكيف ولماذا ماتوا، تقام الإحتفالات وتشرب الأنخاب كلما علت أصوات الحمقى من البشر تدعو القتلى شهداء وتدعي أنهم في الجنة.
إلى جنة أبينا يا حمقى، هكذا يقولون، لم تعد الأقفار والمهجور من السكك أماكن تجمعهم بل صار لهم في كل سكة نادي وفي كل بيت بيت، يتصاعد الدخان في السماء خارجًا من أجواف البشر فيتراقص أولئك حوله في نشوة ويتكاثرون في حميمية، فتلك أرواح تقترب بسرعة من لقاءها المحتوم، أرواح تزف إلى السيد الكبير الذي توقف عن زيارتنا منذ دهر، يكتفي بإستقبال أولئك المحترقين بأيديهم ليحرقهم بيديه ويختمهم بخاتم اللعنة. اللعنة الأبدية.
No comments:
Post a Comment