نقلا عن كتاب أهل الدين و الديمقراطية للدكتور سيد القمنى
و الآن لنذهب الى مصادر التاريخ الاسلامى نستمع الى الشهادات البينات ازاء ما يزعمه الأساتذة الدكاترة العلماء الدعاة المؤرخون بشأن دخول العرب مصر و كيف صان الفاتحون ثروات مصر و لم يستغلوها لصالح أنفسهم و كيف قاموا فيها بعملية اعمار شامل مع شق الترع و بناء الجسور و ترميم الكنائس و إعادة بنائها من بيت مال المسلمين
و هو الأمر الذى يلقون به فى نبوءة النبى محمد صلى الله عليه و سلم ((إن الله سيفتح عليكم مصر من بعدى فاستوصوا بقبطها خيرا فإن لنا فيها نسبا و صهرا )) .. نعم إن هذا الحديث لاشك يشعر كل مصرى بحب نبوى لمصر لا شك فيه .. و لكن هل التزم الفاتحون هذا النصح حقا ؟؟ و هل التزموا أمر النبى و محبته لأصهاره أهل ماريا أم ولده ابراهيم و لنسب الجد ابراهيم الخليل فيهم من هاجر جدة العرب؟
عندما تطالع كتب التأريخ و السير الاسلامية لن يصيبك العجب مما لاقته فنون مصر المعمارية من تشويه و تدمير مع الفتح العربى لأنها كانت بنظرهم تماثيل – أى أصنام – و مع العجلة فى اقامة المنشآت العربية و المساجد فى مصر لم يجدوا أمامهم جاهزا لمواد البناء غير أحجار المعابد المصرية حتى وصل الأمر الى قلع كسوة الأهرام الحجرية لأستخدامها لذات الغرض
من عندى : (( الموضوع ده اتكرر فى العصر القبطى قبل الاسلامى برده ))ء
و كان طبيعيا أيضا أن ينخفض الانتاج المصرى نتيجة لعدم ادراك البدوى لطرق الرى و نظام التحقيل المصرى و ضرورة الاهتمام بأنظمة الصرف.
لكن هناك مشروعا شديد الأهمية تم بعثه مرة أخرى بعد أن سفت عليه الرمال هو اعادة حفر المصريين لقناة سيزوستريس الواصلة بين البحر الأحمر و النيل لهدف يتضح فى أمر الخليفة عمر بن الخطاب لواليه على مصر عمرو بن العاص : (( احفر خليجا من نيلها حتى يسيل فى البحر فهو أسهل لما نريد حمله من الطعام الى مكة و المدينة \ص103\ ابن عبد الحكم )) ء
و كان الطعام بالنسبة لبدو الجزيرة القاحلة سيد المطاليب و هو أمر طبيعى فى بيئة شحيحة و هو ما يتضح قبل هنيهات فى وقعة أليس التى ذبح فيها خالد بن الوليد سبعين ألف عراقى أسير من قبائل بكر بن وائل (( و قام خالد فى الناس خطيبا .. ألا ترون الى الطعام كرمغ التراب ؟؟ و الله لو لم يلزمنا االجهاد فى سبيل الله لكان الرأى أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به \الطبرى ج2 ص 312 ط دار الكتب ))ء
من عندى : (( مش عارف ليه افتكرت البترول و اللى بيحصل بسببه فى العراق دلوقتى ))ء
و يحيطنا الطبرى علما بأن مصر قد فتحت عام 20 هـ و فتحت الاسكندرية فى عام 25 هـ .. أى أن الوصول الى الاسكندرية قد استغرق خمس سنوات مقاومة مصرية مانعة
خاصة معركة عين شمس التى تحصن فيها المصريون و مع سقوط كل مدينة كان المصريون المقاتلون يرحلون الى المدينة التى تليها ليتابعوا الدفاع عن وطنهم حتى الاسكندرية التى اكتظت بهم و كانت آخر معاقل المقاومة حتى بلغت السبايا من جداتنا المصريات لكثرتهن ليس فقط مكة و المدينة بل و حتى اليمن \ الطبرى ج2 ص 512:515)) ء
و تدفقت الأموال و الطعام على عرب الجزيرة حتى قال الخليفة عمر : (( و الله لئن بقيت ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظه من هذا المال و هو مكانه \ الطبرى ج2 ص 571 )) ء
بينما كانت المذابح الجماعية و البلاد المشتعلة بالنار من الدلتا حتى الفيوم تشرد آلاف المصريين و بعد أن استتب الأمر للفاتحين فى مصر جلس عمرو بن العاص على منبره يقول : (( لقد قعدت مقعدى هذا و ليس لأحد من قبط مصر على عهد ولا عقد .. إن شئت قتلت و إن شئت بعت و إن شئت خمست .. إلا أهل أنطابلس فإن لهم عهدا أفى به \الذهبى \سيرة أعلام النبلاء \المكتبة التوفيقية \القهرة\ج2\ص493 )) ء
أما الإسكندرية معقل المقاومة الأخير فكان نصيبها أسوأ الجزاء و كانت عروس المتوسط و التى قال فيها عوف بن مالك لأهلها ((ما أحسن مدينتكم يا أهل الأسكندرية \الطبرى ج2\514)) ء
فقد تركها عمرو بن العاص لجنوده بتعبير بن عبد الحكم "أخائذ" .. فكان العربى يضرب رمحه فى أى بيت يعجبه فيصير له (ابن عبد الحكم \طبعة مدبولى ص130) ء
و سأل بن العاص عن طريقة الجباية الرومانية و مقدارها بعد طرد الرومان ثم أقرها على أساليبها لكن بعد أن ضاعفها ... ثم قام يقسم الأرض فسطاطا و قطائعا أقطعها للعرب النازحين من الجزيرة و وضع قانونا لضيافة العربى فى أى دار مصرية يشاء مدة ثلاثة أيام حتى بقى هذا القانون مثلا حتى اليوم
و أحصى المسلمين و ألزم جميع أهل مصر لكل منهم جبة صوفا و برنسا و عمامة و سراويل و خفين و ثوبا قباطيا كل عام \البلاذرى \فتوح البلدان ص253 .. المقريزى ,المواعظ ج1 ص 293 , ابن عبد الحكم ص 60 ))ء
و مع كل الأموال التى وزعت على الجند أنصبة و ما تم ارساله الى الجزيرة فإن عمرو حاز ثروة عظيمة بلغ نبؤها الخليفة عمر بن الخطاب فأرسل اليه : (( بلغنى أنه قد فشت لك فاشية من خيل و إبل فأكتب الى من أين لك هذا ؟\ القلقشندى \صبح الأغشى\ص 386 )) ء
ثم أرسل اليه محمد بن مسلمة فصادر نصف ما معه من مال مع رسالة عنيفة تقول : (( إنكم معشر العمال جبيتم الحرام و أكلتم الحرام و أورثتم الحرام )) \ابن عبد الحكم ... لكن هذا النصف المصادر لم يعد للمصريين بل حمله بن مسلمة الى الخليفة فى يثرب
و كانت مصر محل تنازع الولاة فعندما حكم الخليفة عثمان عزل ابن العاص عن خراج مصر و وضعه بيد ابن خالته و أخيه من الرضاعة عبد الله بن أبى السرح و جعل ابن العاص على الحرب و إقامة الصلاة
فقال عمرو بن العاص قولته الشهيرة (( اأكون كماسك البقرة و يحلبها غيرى ؟؟؟ \ ابن عبد الحكم ص 178 ))ء
و اشتد ابن أبى السرح على المصريين فى الجباية و أرسل أموالا عظيمة الى يثرب و لما رأى الخليفة كل هذا الخير المتدفق قال لأبن العاص : (( لقد درت هذه اللقحة بعدك يا عمرو )) أى أن هذه الناقة الحلوب قد درت حليبا كثيرا بعد نزعك عن خراجها ... فكان رده المعبر عن حال المصريين : (( و قد هلكت فصالها )) أى و قد مات أطفالها جوعا
و فى زمن معاوية الخليفة الأموى رغب عمرو بن العاص فى ولاية مصر مرة أخرى لأنها فى نظره كانت تعادل الخلافة جميعا فتعلل معاوية بأحاديث دينية .. فرد عليه عمرو ساخرا .. (( أحرقت قلبى بقصصك .. لا و الله إن هى الا الدنيا نتكالب عليها أما و الله لتقطعن لى من دنياك أو لأنابذنك .. فأعطاه مصر )) \ الذهبى 4\244 )) ء
و عندما ضج المصريون بالشكوى رد بنو امية : (( إنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا \ ابن عبد الحكم ص80 )) ء
و يقول الذهبى (( إن عبدالله بن عمرو بن العاص ورث من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب المصرى 4\244 )) و خلف أموالا كثيرة و عبيدا و عقارات و يقال خلف من الذهب سبعين رقبة جمل مملوءة ذهبا \ الذهبى 4\236 )) ء
و ظلت مصر فى ثورات دائمة متقطعة كان أبرزها ثورز 107 هـ زمن الوالى عبيد الله بن حجاب و بدأها أهل قربيط و طرابين و عامة الحوف الشرقى و ثورة 121 هـ و ثورة 132 هـ و ثورة 150 هـ و ثورة 156 هـ
و الثورة الكبرى فى 216 هـ و التى لم تتوقف حتى ركب الخليفة المأمون بنفسه على رأس جيش جرار لإخمادها بعنف عظيم تم فيه قتل الرجال و اغتنام الأطفال و سبى النساء و نهب الأموال و إحراق الدور السكنية و الحقول
و هكذا لم تكن مصر سهلة ولا طيعة و لا كما قال بشأنها عمرو بن العاص (( أمة محقورة رجالها خشب و نساءها لعب و الحكم فيها لمن غلب )) ء
و ظلت فى ثورة مستمرة لا تهدأ حتى أنهكت و فقدت اتصالها بمصدر طاقتها و إرثها الثقافى القديم بفقدانها لغتها وعاء حضارتها و لم يكن أمامها من بعد الا الاندماج بالثقافة الجديدة و تمصيرها و تمصير الوافدين لتعود لأخذ دورها القيادى من داخل المنظومة الوافدة
و مازال أهل الأيديولوجيا يزيفون علينا تاريخنا