مدحوا فيه وفي قدراته وتاريخه كثيرا ثم اعتذروا - بلطف - عن اعطائه الوظيفة لأنه أفضل كثيرا من المطلوب
وعندما عاد إلي منزله العاري من الأثاث والخالي من زوجته - التي خلعته لعدم قدرته على اعالتها وأبنائه وتزوجت من رجل غيره - افترش شهادات خبرته علي الأرض واستخدم حذائه الجلدي القديم الفاخر كوسادة ينام عليها مثلما اعتاد منذ مدة بدأت تؤثر فعليا على صحته
قبل النوم كان يفكر كثيرا في الانتحار خاصة كلما عاد من احدى جولاته للبحث عن عمل وبعد ازدياد أزمته ضيقا واحتكاما ولكنه تذكر دائما ذلك المشهد المفزع الذي شاهده في فيلم سينما في احدي رحلاته لأوروبا الشرقية وقتما كان موظف مهم في تلك الشركة الحكومية التي طردته بعد خلاف حاد مع أحد زملاءه النافذين في الحزب الحاكم
المشهد كان محفورا في ذاكرته كالآتي: الشاب الذي يدفع الكرسي بقدمه ليشنق نفسه قبل لحظات قليلة من وصول ساعي البريد بخطاب التعيين
ظل المشهد محفورا في ذاكرته - رغم ردائة بقية الأحداث ورغم رأيه الذي لم تغيره السنوات بأنه فيلم موجه من النظام الحاكم في ذلك البلد للشباب ليعلمهم الصبر وعدم اليأس من انتظار الوظيفة
-.. تساءل بينه وبين نفسه - كما اعتاد مؤخرا - عن السبب الذي يجعله لا يستطيع نسيان مشهد ساعي البريد اوهو يكتشف جثة الشاب المشنوقة وتعليقه المذهول : "لو فقط كان انتظر للحظات".. كان دائما يرى أن أفضل أبطال الفيلم لم يكن الشاب المنتحر وانما ساعي البريد العجوز الذي كانت لنظراته مفعول السحر
اعترف بقدرة صناع الفيلم على التأثير فيه ,وربما في ملايين غيره تمنوا الانتحار في ذلك البلد الأوروبي تحت الحكم الشمولي ,ثم تذكر حاله وقتما شاهد الفيلم في حفله الخاص في أول أيام العرض بحضور أبطاله وصناعه ووزير الثقافة الشيوعي في ذلك البلد حيث كان هو وقتها جزء من الوفد الصناعي المصري وللسخرية كان يرافقه زميله الذي تسبب في طرده وأوصى بعدم قبول أوراقه في أى شركة بعد ذلك
تذكر كيف طالع أخبار انتحار مؤلف الفيلم -الذي منع من حضور العرض - في اليوم التالي مباشرة للعرض الأول الذي لم ينل استحسان النقاد, ثم بنفس أسلوب المؤلف المنتحر في سرد أحداث الفيلم - وكما لو كان سحرا - تغير رأي النقاد في الفيلم للأفضل بعد انتحار مؤلفه
كانت له نظرية أن منع المؤلف من حضور العرض الأول وهجوم النقاد المبالغ عليه لابد وأن وراءه أوامر عليا ربما من وزير الثقافة ثقيل الظل نفسه وتذكر بدهشة كيف لم يفكر أبدا في ذلك عندما كان يملك المنصب والزوجة والراتب الكبير
خشي دائما أن ينتحر فيضيع فرصة حل مشاكله بنفسه وكان أحيانا يفكر في الانتقام من زميله صاحب النفوذ وظل متمسكا بالأمل في تغير الظروف
نام مرتجفا من البرد والجوع والشعور بالظلم ككل ليلة وكل تلك الأفكار والذكريات تتوالى أمام عينيه
وتكرر هذا لأيام طويلة حتي ارتسم على وجه ساعي البريد الذي أتي له بخطاب التعيين من احدي الشركات النادرة في تخصصه نفس تعبير ساعي البريد العجوز في الفيلم عندما اكتشف جثته ممددة فوق شهادات الخبرة والحذاء الجلدي الفاخر الذي كان من آخر الأشياء التي ظل محتفظا بها من حياته القديمة
أثبت الطب الشرعي بعد ذلك أن وفاته طبيعية وأنه لم ينتحر أويقتل كما ادعت زوجته السابقة وزوجة زميله السابق المسئول النافذ بالدولة
No comments:
Post a Comment